محمية إشكل بين ضغط  السدود والتّغيرات  المناخية: نظام إيكولوجي يختبر حدود الصمود 

محمية إشكل على خط المواجهة المتقدم : حماية النظم الإيكولوجية في زمن التغيرات المناخية

 

الوضع البيئي مُتدهور في بحيرة إشكل والمنظومة الإيكولوجية بشكل عام فقدت توازنها الطبيعي نتيجة عوامل متعددة ومركبة، الوضع حرج ودقيق للغاية هكذا وصف الناشط البيئي والمُوثق للحياة البرية لعقود من الزمن السيد بدر الدين جمعة الوضع. وهو من متساكني المنطقة (منزل بورڨيبة)، ومتواجد بشكل دوري في محمية إشكل ضمن نشاطه المدني أو من أجل ممارسة نشاطه في توثيق الحياة البرية في الحديقة الوطنية، ورصد التغيرات الطارئة على نظامها البيئي. 

شمال العاصمة تونس، وعلى بُعد نحو 75 كلم في أعماق ولاية بنزرت، تمتدّ محمية إشكل على مساحة تناهز 12 ألف هكتار، مشكلة فسيفساء بيئية ومناخية فريدة.
تتَزين الحديقة الوطنية بالسهول الخضراء المنبسطة والأهوَار على مدّ البصر، في مشهد استثنائي يجمع بين تنوّع التضاريس وغِنى النظم الإيكولوجية بالمنطقة. من أعالي الجبل (إشكل) المكسوّ بغطاء نباتي كثيف، يتميز بأشجار البلوط الفلّيني (الفرنان) والعَرعار والخروب و أنواع كثيرة من الشجيرات والبحيرة درة تاج هذا النظام البيئي النادر، فهي تحتضن كل شتاء عشرات آلاف الطيور المهاجرة مثل النحام الوردي والإوز الرمادي…، إضافة إلى أسماك وباقي كائنات المياه العذبة وجواميس الماء …
تظهر إشكل مثل لوحة بانورامية تُخفي في تفاصيلها سرّ التوازن بين المياه العذبة والمالحة والتيارات الهوائية المختلفة القادمة من مختلف الاتجاهات، وضعية كانت متناغمة وملتحمة مع محيطها وبيئتها الخاصة قبل أن يتعكر هذا الصفاء لأسباب متعددة.
 

تأسست المحمية أو الحديقة الوطنية بإشكل رسميا سنة 1980 ولم يمرّ سوى سنة واحدة حتى أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الطبيعي العالمي، اعترافا بمكانتِها الفريدة بوصفها واحدة من أندر المواقع التي تجمع في مساحة واحدة هذا الثراء النباتي والحيواني والمائي. في ذات السنة انضمت المحمية إلى اتفاقية رامسار للمناطق الرطبة ذات الأهمية الدولية لتصبح جزءا أساسيا من شبكة المحميات العالمية.
تواجه المحمية اليوم، امتحانا صعبا من أجل البقاء في زمن التغيّرات المناخية وضغط الإنسان على أنظمتها الايكولوجية شديدة الدقة والتعقيد. فهذه البحيرة التي كانت منذ فترة قريبة من أغزر المناطق الرطبة (رطبات) في المتوسط، بدأت تعاني بشدة في كل جوانب مكوناتها الطبيعية.

سنحاول في هذا المقال إبراز الأهمية البيئية لمَحمية إشكل ضمن النظام الإيكولوجي الوطني والعالمي، مع التوقف عند أبرز مكوناتها الطبيعية وتفسير وضعها القانوني المميز بشكل دقيق، ورصد الإخلالات والتقصير التي طالتها، إضافة إلى تقديم لمحة (شهادات) عن وضعها الراهن.

 

محمية إشكل: أهمية إيكولوجية، تنوع بيولوجي ووضعِية قانونية مميزة

تُعد محمية إشكل واحدة من أبرز المناطق الطبيعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تحظر بوضع قانوني مميز وهي المحمية الوحيدة، نموذجا فريدا لحماية الأراضي الرطبة، وهي المحميات التي سُجلت في قوائم ثلاث منظمات دولية كبرى تشمل اليونسكو ضمن التراث العالمي الثقافي والطبيعي واتفاقية رامسار للأراضي الرطبة والاتحاد الدولي لحماية الطبيعة منطقة، بوصفها محمية ذات أهمية بالغة على المستويين الوطني والعالمي، تنقسم المحمية إلى مناطق (تضاريس) متنوعة تشمل الجبل 1373 هكتار وبُحيرة إشكل تمتد على حوالي 8,500 هكتار والأَهوار 2,737 هكتار، يتم إمدادها بالمياه العذبة من حوضها القادم من منطقة تبلغ مساحتها 2080 كيلومترا مربّعا وهي متّصلة بالبحر من خلال بحيرة بنزرت عبر وادي تينجة.
تستقطب المحمية سنويًا ما بين 200,000 و300,000 طائر مهاجر لتُعد بذلك أكبر محطة شتوية للطيور المائية في شمال إفريقيا، ومن بين الأنواع النادرة نجد الإوز الرمادي بأعداد تصل إلى حدود 100,000 أوزة وأبو ملعقة الأبيض والنحام الوردي…، كما تضم أكثر من 220 نوعًا من الطيور المسجلة وأكثر من 500 نوع نباتي من بينها أنواع مستوطنة في شمال إفريقيا لا توجد إلا في هذا المجال ويتميز التنوع البيولوجي في إِشكل بوُجود المواطن الطبيعية المتنوعة التي توفر ملاذًا للكائنات الحية، فالبُحيرة والمستنقعات تمثل موئل الطيور المائية، بينما غابات البلوط الفليني تحتضن الثدييات والزواحف، في حين توفر المروج العشبية والسفوح الجبلية بيئة خصبة للنباتات النادرة والكائنات الدقيقة، ويُضاف إلى ذلك التربة الرطبة التي تلعب دورًا حيويا في تخزين المياه وحماية التوازن الهيدرولوجي للمنطقة.
تكتسب محمية إشكل أيضا أهمية إيكولوجية كبيرة على المستوى المحلي حيث تمثل نظاما معقدا يربط بين مكونات طبيعية متعددة ومترابطة، فالبُحيرة تستمد مياهها من عدد من الوديان التي تصب فيها، والغطاء النباتي يحمي التربة من الانجراف ويعزز القدرة على مقاومة التغيرات المناخية كما تساهم الطيور المهاجرة في نشر البذور والسيطرة على بعض الحشرات والآفات، وهذا التكامل جعل من إِشكل رئة بيئية ومتنفس لشمال البلاد التونسية.
فهي تساهم في تلطيف المناخ المحلي وتنظيم الدورة المائية ودعم التنوع الحيوي للأراضي المجاورة، كما أنها تعد نقطة مركزية في مسار هجرة الطيور بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء، ما يمنحها أهمية إيكولوجية إقليمية استراتيجية ويجعلها مثالا حيا يجب دعمه من أجل حماية الأراضي الرطبة في مواجهة تحديات التغيرات المناخية وخاصة تناقص نسب المياه.
بالإضافة إلى كل ذلك تساهم المحمية في الحفاظ على المخزون الجيني العالمي من خلال حماية أنواع نباتية وحيوانية نادرة ومهددة بالانقراض، ومن الناحية العلمية توفر المحمية فرصة لإجراء أبحاث دولية معمقة في مجالات علم الطيور، علم البيئة، علم المناخ، ورصد التنوع البيولوجي، ما يجعلها حاضنة للمعرفة ومركزا للتكوين العلمي والبحثي حيث تحتوي على متحف بيئي وهي أيضا مجال مهم للسياحة البيئية.
حيث أكد الخبير والناشط البيئي مهدي العبدلي أهمية المحمية وشرح بشكل دقيق وضعيتها القانونية المميزة
”هي محمية طبيعية وطنية مصنفة ضمن قائمة التراث ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ 1979 لما تحتويه من نظام بيئي فريد وتنوع بيولوجي يجمع بين البحيرة والجبال والمستنقعات. كما أنها أول موقع رطب تونسي يُدرج في قائمة رامسار منذ السنة نفسها، وهي جزء من برنامج الإنسان والمحيط الحيوي (MAB) كمحمية محيط حيوي منذ 1980.
تتفرد المحمية وتشتهر بوجود جاموس الماء، حيث تم إدخاله لتونس من طرف البيات في العهد الحسيني (القرن 19) في إطار تبادل هدايا مع الدولة العثمانية.
و قد استقر الجاموس في المنطقة لأنها رطبة وغنية بالمياه والنباتات المائية، بيئة مثالية لعيشه. تكاثر الجاموس وأصبح جزء من المشهد الطبيعي للمحمية يعيش بحرية، ويتخذ من البحيرة والمستنقعات مكانا للعيش والتكاثر وعلينا حمايته.”
لكن رغم كل هذه الأهمية والمكانة على المستوى الوطني والعالمي للمحمية، فإنها تواجه ضغوطات كبيرة تهدد توازنها البيئي من كل جوانبه. ولعل أبرز هذه المخاطر وأخطرها هو تراجع منسوب المياه بسبب الاستغلال المكثف للأودية وتشييد السدود في أغلب المجاري المائية (وادي دويميس، وادي سجنان، وادي ملاح، وادي غزالة، وادي جومين، ووادِي تينجة) التي تغذي البحيرة ذات التوازن المائي الدقيق الذي جمع بيئة تمزج ما بين المياه المالحة والعذبة، وأيضا ظهرت بشكل واضح تأثيرات التغيرات المناخية التي أثرت سلبًا على أعداد الطيور المهاجرة التي كانت تزورها بالآلاف وأصبحت اليوم مجرد ضيف عابر وضحية من ضحايا أخرى في سجل ضحايا التغيرات المناخية.
وصف العبدلي الوضعية الحالية للمحمية بالوضعِية الحرجة وهو تقريبا ما أجمعت عليه جميع الشهادات حيث وصف الأخير الوضعية كالتالي ” محمية إشكل رغم كونها مازالت محافظة على مكانتها كتراث عالمي ومحمية وطنية، إلا أنها تواجه ضغوطات كبيرة تهدد توازنها البيئي ربما أهمها : تراجع منسوب المياه بفعل الاستغلال المكثف لمجاري الأودية إضافة طبعا إلى التغيرات المناخية، وهو ما أثر سلباً على أعداد الطيور المهاجرة التي كانت تزورها بالآلاف. ورغم مكانتها الدولية وبرامج الدعم الموجهة لها، فإن التدخلات تبقى محدودة مقارنة بحجم التهديدات الكبيرة.

 

التغيرات المناخية وضعف برامج التدخل : كابوس يهدد بفقدان مميزات محمية إشكل

”الوضع البيئي حاليا متدهور بحيرة إشكل و كل المنظومة الايكولوجية فقدت كل التوازن الطبيعي نتيجة انحباس الأمطار وعدم وصول المياه العذبة للبُحيرة نتيجة بناء السدود على الأودية الستة الرئيسية التي تغذي البحيرة بمياه الأمطار” بهذه الشهادة الصريحة والمفزعة في آن واحد كان إجابة بدرالدين جمعة
الناشط بيئي وعضو الجمعية التونسية لعلوم الطيور والمُوثق للحياة البرية في المحمية لسنوات طويلة.
شهادة من شخصية خبرت المحمية على مر السنين تؤكد خطوة ما آلت إليه الأمور، حيث أصبح من المواد ضرورة التدخل العاجل من أجل توفير حلول علمية توازن بين حاجة التونسيين لمياه السدود وحاجيات النظام البيئي في إشكل الذي ينعكس على عموم النظم الايكولوجية والتساقطات المطرية في الشمال الغربي.
ويؤكد بدر الدين جمعة على خطورة الوضع ويوضح أسبابه كالتالي ”تشهد البحيرة حالة بيئية حرجة نتيجة توقف وصول مياه الأمطار إليها، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة وانهيار التوازن البيئي. تراكم الرواسب هو الآخر تسبب في تراجع عمق البحيرة، مما رفع درجات حرارة المياه وسرّع عملية التبخر، وزاد من ملوحتها. هذه التغيرات أدت إلى انهيار المنظومة النباتية المائية التي تُعد مصدر الغذاء الرئيسي للعديد من الطيور المهاجرة … كما ساهم بناء منشأة على وادي تينجة للتحكم في الملوحة، وانسداد الوادي الرابط بين بحيرة إشكل وبُحيرة بنزرت، في تفاقم تدهور الوضع البيئي مع تراجع أعداد وأصناف الأسماك مثل الأنقليس والبوري وأنواع أخرى…”
تشير جميع الشهادات والتقارير الرسمية إلى الوضعية الحرجة التي تعيشها المحمية، وعلى وجه الخصوص البحيرة، ما يجعل الحاجة ملحة لتسليط الضوء على مجموعة المشاريع والمبادرات التي حاولت تنفيذ تحسينات عملية ذات أثر فعلي للحد من هذه التدهورات البيئية وفي هذا السياق بين مهدي العبدلي أن إليك صياغة صحفية أكثر انسيابية وجاذبية:.
تسعى جهود حماية البيئة في المنطقة من خلال عدة مشاريع دولية بارزة تبرز أهمية الحاجة إلى المجتمع المدني والتعاون الدولي، أبرز هذه المشاريع برنامج life لاتحاد الأوروبي، الذي يدعم الابتكار في الحفاظ على التنوع البيولوجي وإدارة الموارد الطبيعية، و GEF/UND بالشراكة بين مرفق البيئة العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي يموّل مبادرات بيئية لتعزيز التنمية المستدامة، بالإضافة إلى MedWet ضمن مبادرة المتوسط للأراضي الرطبة، الذي يركّز على حماية الأراضي الرطبة والحفاظ على التنوع البيولوجي والموارد المائية، مع تعزيز الوعي والممارسات المستدامة على المستوى المحلي.
رغم أهمية هذه المشاريع إلا أنها تحتاج إلى الدعم والتعزيز وخاصة العمل على جملة من الإجراءات العاجلة ومن بينها حسب تصور السيد بدر الدين بن جمعة والذي يتوافق مع عيد الشهادات التي وصلتنا من مختلف المهتمين بالشأن البيئي عموما والحَديقة الوطنية بإشكل بشكل خاص، وهي كالتالي ” لا أعتقد أن هناك حلولًا جيدة في ظل تداعيات التغيرات المناخية، لكن حسب اعتقادي هناك إجراءات تمهيدية يمكن القيام بها في انتظار أن يرحمنا الله بكميات كبيرة من الأمطار. من هذه الإجراءات استكمال جهر وادي تينجة كاملًا، وإعادة النظر في عقود اللُزمة (عقد) الخاصة باستغلال المصيدة والقوانين المنظمة لها، وتسوية الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للمصيدة، وإعادة عرض المصيدة للتَسويغ (الاستغلال).
كما يجب العمل على وضع برنامج شراكة بين الإدارة العامة للغابات والجمعيات المختصة لتقنين واستغلال الدخول إلى الحديقة الوطنية بإشكل بمقابل، وتوظيف المداخيل لتحسين الاستقبال والمرافقة والتأطير للزوار، ومراجعة مثال التصرف وخطط التهيئة للحديقة الوطنية، وإعادة النظر في تركيبة لجنة التصرف المشتركة التي لم ترَ النور يومًا سوى على التقارير. ويشمل ذلك تكوين وإعادة رسكلة أعوان الغابات وموظفي الاستقبال لضمان جودة الخدمات وتقديم المعلومة الدقيقة والمفيدة للزوار، وأن لا يقتصر ذلك على محافظ الحديقة فقط، بالإضافة إلى تحسين المرافق الأساسية مثل مياه الشرب، الإضاءة بالطاقة الشمسية، دورات المياه، اللافتات التوجيهية والتحسيسية، وسلات المهملات. ويجب أيضًا توعية الفلاحين في حوض سيلان إشكل لترشيد استهلاك المبيدات للحد من تلوث مياه البحيرة، وفسح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في مجال الخدمات في الجهة الغربية للجبل. والحقيقة أن دور المجتمع المدني يتوقف على علاقته بالإدارة، فلا تتجاوز المشاركة الشكلية مستوى الشراكة الفعلية إلا في بعض الحالات الاستثنائية”
أردنا أن نسلط العدسة والضوء على آراء الناشطين والمدافعين على البيئة في محمية إشكل لأنهم خبروا المكان وعرفوه وشهدوا تغيراته لعدة سنوات، ربما نساهم ولو بجزء ضئيل في حماية هذا الكنز البيئي الوطني والعالمي.
إن محمية إشكل إذن ليست مجرد فضاء طبيعي محمي بل هي نظام إيكولوجي عالي الأهمية ومخزون حيوي للتنوع البيولوجي يشكل ثروة وطنية وإنسانية، وحمايتها تعني الحفاظ على حلقة أساسية في شبكة الحياة التي تربط شمال المتوسط بجنُوبه، وهي مسؤولية مشتركة بين تونس (الدولة ومنظمات المجتمع المدني) والمجتمع الدولي، إذ إن المحافظة على هذا الفضاء تعكس التزام الإنسان بحماية الطبيعة وضمان استمرار التنوع البيولوجي الذي يشكل أساس استدامة الحياة على كوكب الأرض وتطبيق لمبدأ حق الأجيال القادمة في بيئة سليمة وأيضا ممارسة مبدأ المسؤولية في حماية الطبيعة.

0
Show Comments (0) Hide Comments (0)
0 0 votes
تقييم المادة
اشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
الأقدم
الأحدث الأكثر تصويتاً
الملاحظات المضمنة
عرض جميع التعليقات
المنشورات الأخيرة