دبلوماسية المياه: تحويل التوترات المائية إلى تعاون في مجال المياه

تضم منطقة البحر الأبيض المتوسط 60% من سكان العالم الذين يفتقرون إلى المياه في العالم حيث يقل نصيب الفرد من المياه عن 1000 متر مكعب لكل ساكن في السنة. وهذا يعني أن 20 مليون شخص، خاصة في بلدان جنوب وشرق المنطقة، يفتقرون إلى مياه الشرب. وفي خضم هذه الخلفية، استضافت تونس المنتدى المتوسطي الخامس للمياه في الفترة من 5 إلى 7 فبراير/شباط 2024، وهو حدث محوري شاركت في تنظيمه الحكومة التونسية ووزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري إلى جانب الاتحاد من أجل المتوسط. جمع هذا التجمع بين الخبراء وصانعي السياسات وأصحاب المصلحة في القطاع في جهد متضافر لصياغة مسارات نحو إدارة فعالة للمياه في البحر الأبيض المتوسط. لا يمكن أن يكون توقيت المنتدى أكثر أهمية من هذا التوقيت، حيث يتصدى للضغوط المركبة لتغير المناخ، وارتفاع درجة حرارة المنطقة بنسبة 20٪ أسرع من المتوسط العالمي وأزمة ندرة المياه التي لا مثيل لها، ويسعى إلى وضع استراتيجيات للتعاون والابتكار في إدارة المياه من أجل مستقبل المنطقة.

دبلوماسية المياه لمعالجة ندرة المياه؟

يطارد شبح الإجهاد المائي منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث يصنف معهد الموارد العالمية العديد من بلدان المنطقة ضمن فئات الإجهاد المائي “المرتفع” إلى “المرتفع للغاية”. هذا الوضع المحفوف بالمخاطر، حيث ينخفض نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة إلى ما دون عتبة الألف متر مكعب سنوياً، يضع الملايين من الناس في خطر لا يهدد سبل عيشهم فحسب، بل يزيد أيضاً من خطر تفاقم النزاعات في منطقة تغلي أصلاً بالتوترات الجيوسياسية.

في حقبة تتقاطع فيها أزمة الاستدامة مع الآثار السلبية لتغير المناخ والاستنزاف المستمر للموارد الطبيعية، لم تكن حتمية التعاون الدولي والإقليمي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. ومع ذلك، تصطدم هذه الضرورة الملحة بتشكك متزايد تجاه الاتفاقات الدولية والتوجه نحو الجغرافيا السياسية الانعزالية، مما يجعل السعي إلى التعاون أكثر صعوبة.

تستدعي هذه الطاولة المعقدة استراتيجيات دبلوماسية مبتكرة قادرة على الإبحار في الشبكة المعقدة من علاقات السياسة الخارجية، التي أصبحت الآن أكثر تشابكًا مع الموارد الحيوية للمياه والغذاء والطاقة، إلى جانب الظل الشامل لتغير المناخ.

ندخل إلى دبلوماسية المياه، وهو نموذج ناشئ يسعى إلى الجمع بين مجالات إدارة المياه والسياسة الخارجية والجغرافيا السياسية والتعاون الإقليمي. وتسعى دبلوماسية المياه في جوهرها إلى الاستفادة من الأدوات التقليدية للحوار والتفاوض والتعاون الدبلوماسي لنزع فتيل النزاعات المحتملة حول المياه وتعزيز العلاقات التكافلية بين الدول التي تتقاسم هذا المورد الحيوي. ومن هذا المنظور، تبرز الدبلوماسية ليس فقط كقناة للعلاقات الدولية بل كآلية فعالة لتأمين السلام والاستدامة في مواجهة أزمات المياه التي تلوح في الأفق.

السلام الأزرق في الشرق الأوسط: المياه كجسر للسلام

في خضم التيارات المضطربة لأزمة المياه في الشرق الأوسط، برزت سويسرا كمنارة للابتكار والسلام من خلال مبادرتها “السلام الأزرق”. ويمثل هذا المشروع غير الحكومي، المدعوم بدعم من الحكومة السويسرية والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، قفزة رائدة في مجال دبلوماسية المياه. يقوم مشروع “السلام الأزرق” على القناعة بأن إدارة المياه يمكن أن تكون بمثابة أداة محورية لبناء السلام، بهدف إعادة صياغة المياه من مصدر محتمل للصراع إلى جسر للتعاون.

تعزز المبادرة الإدارة المشتركة للموارد المائية، وتدعو إلى الحوار والاحترام المتبادل والتعاون بين الدول. ترتكز مبادرة السلام الأزرق على الإيمان بأن الجهود التعاونية يمكن أن تخفف من تحديات ندرة المياه وفي الوقت نفسه ترسي أسس السلام والاستقرار الإقليميين. ووفقًا لحكم العلمي، المستشار البيئي والمدير المالي والتنموي في شركة العلمي للصرافة وعضو اللجنة الإدارية لمنظمة السلام الأزرق، فإن “السلام الأزرق فريد من نوعه من حيث أنه المبادرة الوحيدة المملوكة إقليميًا التي تركز على رفع مستوى المياه كأداة للسلام وليس الصراع”.

نحن ملتزمون بدبلوماسية المسار الثاني، ونسعى جاهدين إلى تحقيق مواقف مربحة للجانبين بين دول المنبع ودول المصب، سواء داخل الدول أو عبر المنطقة.

ح.العلمي

تعد النزاعات على المياه أمرًا شائعًا في الشرق الأوسط، حيث تتداخل العديد من أنهار المنطقة وبحيراتها مع حدود العديد من البلدان. ويؤثر بناء السدود، مثل سد النهضة الكبير في إثيوبيا على نهر النيل، بشكل كبير على توافر المياه في دول المصب، مما يثير التوترات ويهدد سبل العيش. وقد سلّط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الضوء على خطورة الوضع، معتبرًا تأثيرات السد على إمدادات المياه في مصر “مسألة حياة أو موت“، ولم يستبعد الرئيس المصري اتخاذ إجراء عسكري لضمان التوزيع العادل للمياه.

ويحذر الخبراء من أن الاحتباس الحراري يمكن أن يؤدي إلى تفاقم هذه النزاعات، متوقعين اختفاء الممرات المائية الحيوية مثل دجلة والفرات في نهاية المطاف. في ظل هذه الخلفية، يدافع مشروع “السلام الأزرق” عن الإدارة الإقليمية المتكاملة لمستجمعات المياه الإقليمية، ويدعو إلى اتباع نهج شامل لإدارة الموارد يركز على الكفاءة والاستدامة في المنطقة بأكملها.

ويوضح العلمي فلسفة منظمة السلام الأزرق: “نحن لا ننظر إلى المياه على أنها سلعة محصلتها صفر، بل ننظر إليها كسلعة مترابطة من القضايا المتداخلة والروابط المتشابكة مع العديد من القطاعات في المنطقة. ومن خلال التركيز على فوائد التعاون بدلاً من التركيز على تكاليف عدم التعاون، يصبح الطريق إلى الأمام واضحاً.” ويشدد على أهمية إيجاد أرضية مشتركة وحلول تعاونية.

لا يمكن لأي بلد بمفرده أن يتصدى لتحديات المياه بمفرده، لا سيما على المستوى الإقليمي. تلتزم منظمة السلام الأزرق بتوحيد الأفكار والجهود نحو استراتيجية شاملة لإدارة مستجمعات المياه المشتركة.

ح.العلمي

دبلوماسية المياه: تفادي الهجرة المناخية من خلال الإدارة المستدامة

يخيم شبح ندرة المياه على منطقة الشرق الأوسط، حيث تتوقع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن تتراوح الخسائر الاقتصادية الناجمة عن نقص المياه بين 6 إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي لبلدان الشرق الأوسط بحلول عام 2025. ويمثل هذا أكبر خسارة متوقعة للناتج المحلي الإجمالي بسبب ندرة المياه على مستوى العالم، مما يؤكد العلاقة الحرجة بين إدارة المياه والاستقرار الاقتصادي. وقد دأب المنتدى الاقتصادي العالمي على تصنيف أزمات المياه ضمن أكبر خمسة مخاطر عالمية من حيث التأثير منذ عام 2012، مما يعكس الحاجة الملحة لمعالجة هذا التهديد المتصاعد.

وقد أدت الأزمة إلى بروز ظاهرة “لاجئي المياه”، وهم السكان الذين نزحوا بسبب النقص الحاد في المياه. في عام 2017، كان الجفاف الحاد مساهماً رئيسياً في ما اعتُبر أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث اضطر 20 مليون شخص في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط إلى ترك منازلهم.

ولم تكن عمليات النزوح هذه مدفوعة بالآثار المباشرة للجفاف فحسب، بل أيضاً بسبب نقص الغذاء الناتج عن الجفاف والنزاعات. ففي المناطق الحضرية، تعيق ندرة المياه بشدة تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية وعمل أنظمة الرعاية الصحية، بينما تواجه المجتمعات الريفية تحديات مكثفة بسبب فترات الجفاف الطويلة، مما يضغط على القطاع الزراعي ويعرض الأمن الغذائي للخطر.

نحن نهدف إلى إيجاد حلول مستدامة لإدارة الموارد المائية تمنع اقتلاع الناس من أراضيهم.

ح.العلمي

يسلط هذا البيان الضوء على تركيز المبادرة على كل من منع النزوح ومعالجة أسبابه الجذرية من خلال دبلوماسية المياه الاستراتيجية.

في محافظة خوزستان الإيرانية وأجزاء من جنوب العراق، أثارت درجات الحرارة التي تقترب من 50 درجة مئوية في محافظة خوزستان الإيرانية وأجزاء من جنوب العراق احتجاجات بسبب النقص الحاد في المياه، وهو دليل على الاضطرابات المتزايدة المرتبطة بندرة المياه. ويواجه الشرق الأوسط، المعروف بأنه المنطقة الأكثر جفافاً على مستوى العالم حيث توجد اثنتا عشرة دولة من أكثر دول العالم ندرة في المياه، تحدياً غير مسبوق. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة السلام الأزرق كأداة دبلوماسية حاسمة في هذا السياق، تهدف إلى التخفيف من الآثار المتعددة الأوجه لندرة المياه.

ويوضح العلمي كذلك النهج المزدوج الذي تتبعه المبادرة في معالجة الهجرة القسرية: “نحن ننظر إلى المشكلة من خلال عدستين قصيرة الأجل وطويلة الأجل. فعلى المدى القصير، نعمل على تحديد الحلول لتزويد المجتمعات المهمشة بإمكانية الوصول إلى موارد مائية آمنة وكافية، بما يضمن كرامتهم وصحتهم. أما استراتيجيتنا طويلة الأجل فتركز على فهم دوافع الهجرة القسرية، وتحليل الأسباب الجذرية الكامنة وراء موجات النزوح هذه”. يؤكد هذا النهج الشامل على أهمية دبلوماسية المياه في صياغة استجابات فورية ومستدامة لواحد من أكثر التحديات إلحاحًا في عصرنا.

مبادرة السلام الأزرق: تخطيط النجاح في جميع أنحاء الشرق الأوسط

لقد حفرت مبادرة السلام الأزرق لنفسها مكانة مرموقة من خلال سلسلة من التدخلات المؤثرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مما يدل على الفوائد الملموسة للإدارة التعاونية للمياه والدبلوماسية. ومن الأمثلة البارزة على نجاحها مشروع مراقبة دجلة، وهو حجر الزاوية في جهود المبادرة لتعزيز إدارة المياه على طول نهر دجلة وروافده في العراق. ركز هذا المشروع على الجوانب الحيوية لجمع البيانات الهيدرولوجية وتخزينها وتحليلها ونشرها. وقد حقق المشروع إنجازات مهمة، بما في ذلك إعادة تأهيل محطتي رصد قائمتين وتركيب ثلاث محطات قياس جديدة في منطقة الحدود الثلاثية ذات الأهمية الاستراتيجية. وعلاوة على ذلك، نظمت المبادرة دورات تدريبية شاملة للخبراء المحليين والوطنيين، مما أدى إلى تحسين قدراتهم بشكل كبير في تشغيل المحطات وصيانتها ومعايرتها والتحقق من البيانات.

ومن السمات المميزة الأخرى لنجاح مبادرة السلام الأزرق برنامج الترابط بين المياه والطاقة والغذاء والنظام الإيكولوجي. يسعى هذا البرنامج الطموح إلى تعزيز أمن المياه والطاقة والغذاء مع تعزيز مرونة النظام الإيكولوجي في الشرق الأوسط. ويجري تنفيذ البرنامج تحت رعايةالشبكة الإسلامية الدوليةلتنمية الموارد المائية وإدارتها (INWRDAM ) من خلال مركز الترابط بين المياه والطاقة والنظم الإيكولوجية التابع لها، وهو بمثابة منصة إقليمية محورية لتبادل المعرفة وتطوير مشاريع عملية للترابط بين المياه والطاقة والنظم الإيكولوجية. تمثل هذه المبادرة خطوة كبيرة نحو الإدارة المتكاملة للموارد، مما يعكس نهجاً شاملاً لمعالجة التحديات المترابطة التي تواجه المنطقة.

في معرض تسليطه الضوء على النهج الاستراتيجي للمبادرة في التعاون الإقليمي، شارك حكم العلمي رؤيته حول الجهود الجارية لقياس وإدارة الموارد المائية بشكل أكثر فعالية. “لقد بدأنا دراسات مؤشر البصمة المائية لكل من العراق ولبنان وتركيا والأردن، إلى جانب دراسة شاملة لخط الأساس لمبادرة المياه والطاقة والغذاء. وتستعرض هذه الدراسة الأساسية الوضع الحالي للمياه والطاقة والغذاء والنظم الإيكولوجية في هذه البلدان، مما يضع الأساس للتحسينات المستقبلية”. وتمثل هذه الدراسات خطوات حاسمة نحو فهم الاستخدام الأمثل للموارد الثمينة في الشرق الأوسط والاستفادة منها على النحو الأمثل، وتجسد التزام مبادرة السلام الأزرق بتعزيز الاستدامة والتعاون عبر الحدود.

الطريق إلى الأمام: الحفاظ على الزخم في دبلوماسية المياه

ومع تنامي الزخم، تقف المبادرة عند منعطف حاسم، حيث تستعد لتوسيع نطاقها وتعميق تأثيرها. فالمستقبل يلوح في الأفق بفرص توسيع نطاق الحوار ليشمل المزيد من الدول، ونسج شبكة تعاون أكثر كثافة تتجاوز الحدود والانقسامات السياسية. ويشكل الابتكار في تكنولوجيا إدارة المياه وتعزيز الأطر القانونية للتعاون في مجال المياه العابرة للحدود خطوتين تاليتين حاسمتين. ولا تعد هذه الجهود بتجنب التهديدات التي تلوح في الأفق بسبب ندرة المياه فحسب، بل تعد أيضًا بإعادة صياغة المياه كحجر زاوية للسلام والازدهار العالميين.

ويؤكد حكم العلمي على جوهر الرحلة المقبلة، داعيًا إلى تغيير المنظور نحو الثقة المتبادلة وبناء الثقة.

من خلال الاعتراف بأن الموارد الطبيعية تتجاهل الحدود التي صنعها الإنسان وتشمل بدلاً من ذلك النظم الإيكولوجية الإقليمية، يمكننا تعزيز الشعور بالملكية والمسؤولية المشتركة.

ح.العلمي

ويمثل هذا التحول في النموذج، الذي ينظر إلى المياه والموارد الطبيعية الأخرى كأصول مشتركة إقليمياً، نقطة محورية حاسمة في الخطاب حول الدبلوماسية البيئية.

في الوقت الذي يواجه فيه الشرق الأوسط والمجتمع العالمي الأوسع نطاقاً التحدي المتصاعد لندرة المياه، تسطع روح مبادرة السلام الأزرق كمنارة للأمل. في الباليه المعقد للعلاقات الدولية، تجاوزت المياه دورها كمجرد عنصر للبقاء على قيد الحياة لتصبح أداة محورية للسلام. تؤكد رحلة مبادرة السلام الأزرق على الإيمان بأن الدبلوماسية المتجذرة في التعاون والرؤى المشتركة لمستقبل مستدام يمكن أن تزدهر حتى في أكثر المناطق جفافاً. تمهد هذه المبادرة الطريق لعصر جديد من التعاون، واعدة بمزيج متناغم من السلام والازدهار للأمم التي توحدها المياه المشتركة التي تحافظ على الحياة على الأرض.

0
Show Comments (0) Hide Comments (0)
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments